![]() |
كرنفال أوسّو |
كرنفال أوسّو .. الحكاية التي رواها أهل المسرح بسوسة
كرنفال أوسّو" أحد أهم التظاهرات السنوية الصيفية في تونس، وينتظم في مدينة سوسة الساحلية في الخامس والعشرين من شهر جويلية/يوليو، يقترن بالبحر وأساطيره، وتطور ليُصبح رمزًا ثقافيًّا سياحيًّا واقتصاديًّا.
تاريخ الكرنفال يعود إلى سنة 1957، واتصل بعثه بمجموعة من المثقفين المحليين من سوسة والساحل عمومًا، وتلازم مع نشأة فنانين وممثلين مسرحيين، فكان للمسرح تأثير مباشر على قصة "أوسّو" الذي يتجذر في الذاكرة الجمعية عبر الحضارات المتعاقبة
ولعلّ الجدل الذي يرافق كرنفال "أوسّو" بين الفاعلين في الثقافة بعد كل استعراض شعبي، يدفعنا إلى مزيد التدقيق في هوية هذا الكرنفال الذي مرّ بحقبات سياسية مختلفة، بدءًا من مرحلة ما بعد الاستقلال، مرورًا بالحقبة النوفمبرية، وصولًا إلى اليوم، وهي مراحل تعكس الفعل الثقافي والسياسي والاقتصادي في جهة الساحل
ونبشًا في الذاكرة، نتناول في هذا التقرير علاقة الكرنفال بالحركة المسرحية في سوسة، مركزين على شخصيات رئيسة في تأثيث المشهد الكرنفالي، من بينهم: محمد الزرقاطي، وحامد زغدان، وعبد الحفيظ بوراوي، مؤسسي هذه التظاهرة العريقة.
في تقرير نُشر بجريدة الشروق التونسية سنة 2009، للصحفي رضوان شبيل، ذُكر أنه من المبادرات الأولى: جمعية الاتحاد المسرحي بسوسة، فرقة إبراهيم الأكودي بأكودة، جمعية الإشراق المسرحي بالقلعة الكبرى، جمعية الشباب المسرحي بحمام سوسة.
وأضاف شبيل أنه "كان لتأسيس الفرقة القارة بسوسة سنة 1967 تأثير هام على المشهد المسرحي بولاية سوسة ككل من طرف الذين تداولوا على إدارتها، وهم: محمد الزرقاطي (1967)، محمد الصالح السماتي (1969)، نور الدين القصباوي (1970)، علمًا وأن الفرقة توقفت وعادت مع العزيز بن يوسف (1976)، عبد الغني بن طارة (1978)، العجمي حويج (1981)، ثم رضا دريرة (1991)، بعدها حُلّت الفرقة (1994)، وتفرق الممثلون الذين احتضنتهم واستقطبتهم، ونذكر على سبيل المثال: حامد زغدان، الصادق الطرابلسي، المولدي الزرماطي، أحمد دودش، محمد القبّودي، آمال البكوش، مراد كروّت، كمال العلاّوي، الطاهر القروي، محمد الجدي، مليكة الحبلاني، الحبيب بن ذياب، علي ساسي، وغيرهم كُثر".
ونلاحظ من خلال هذه التشكيلة الثقافية من المسرحيين الطابع الفريد لما أرساه محمد الزرقاطي (12 أفريل/نيسان 1921 – 26 جويلية/يوليو 2005)، وقد أخرج حوالي عشرين مسرحية بدءًا من العام 1950، من ضمن أبرز أعماله: "المرأة المجهولة"، "شمس النهار"، "السلطان الحائر"، و"مسمار جحا"، وشارك في كتابة وإخراج مسرحية "تحرير الجزائر" سنة 1958، وكان لمحمد الزرقاطي الدور التأسيسي لكرنفال أوسّو في عام 1957 بإبداع شخصية "بابا أوسّو".
ونظرًا للدور المحوري لمحمد الزرقاطي، فقد التقى موقع "الترا تونس" بابنه الفنان المسرحي والحكواتي طارق الزرقاطي ليحدثنا عن العلاقة الجدلية بين قصة كرنفال أوسّو والحركة المسرحية الناشئة في الخمسينيات.
يحدثنا طارق الزرقاطي قائلًا: "أصل الحكاية بدأ حين سافر والدي إلى مصر سنة 1956 لأخذ ترخيص كتابي من الكاتب علي أحمد بكثير، الكاتب السوداني المصري، للاشتغال على مسرحية ‘مسمار جح‘، في الوقت نفسه الذي شهد فيه احتفالية النيل، فكانت الفكرة التي تبادرت إلى ذهنه تلك العجائز من النساء في شواطئ سوسة اللاتي يدلين بسيقانهن في مياه البحر منشدات ‘يا بحر أوسّو نحّيلي الداء اللي نحسّو‘ ولما عاد إلى تونس، اقترح على عبد الحفيظ بوراوي فكرة الكرنفال في اقترانه بشخصية ‘ابا أوسّو‘، محولين إياه من آلهة وثنية (إله البحر عند الإغريق) إلى شخصية ذات بُعد ثقافي وسياحي مع بدايات فترة الاستقلال التي تعيشها البلاد"
وأضاف طارق الزرقاطي: "المقترح الذي حظي بالموافقة من رجالات سوسة جعلوه منذ البداية احتفاءً بالبحر، فتمت تسميته بكرنفال ‘سيدي أوسّو‘ أولًا، ثم ‘بابا أوسّو‘، وبعد ذلك اقترن بعيد الجمهورية في تاريخ 25 جويلية/يوليو فحظي بالدعم".
شخصية أوسّو كما صوّرها محمد الزرقاطي وعبد الحفيظ بوراوي هي "شخصية مسرحية دراميّة تحيا كل سنة وتموت لتعود في السنة القادمة"، وهي التي كانت ترمز إلى إله البحر وفق الأسطورة "أوسّو" أو إله البحر، أسطورة "أغسطس" كما كان يُلقب في الحقبة الفينيقية منذ أكثر من ألفي سنة، رُسمت صور له على جداريات فسيفسائية وُجدت ضمن آثار مدينة سوسة التونسية الساحلية.
ويذكر لنا طارق الزرقاطي أن النص الأول الذي يتضمن أغنية أوسّو الشهيرة: "يا بابا أوسّو نحّيلي الداء اللي نحسّو وبعّد علينا الحرّيق..."، كان لها لحن مميز سنة 1958، وتم تلحينها في دار الشعب (المكتبة الجهوية العمومية حاليًا)، والتي كانت تجمع أهل الفن والثقافة في جميع الاختصاصات، وفي السنوات الأولى تم تأثيث المشهد المسرحي الكرنفالي بخروج بابا أوسّو من البحر، مرفوقًا بالهودج، ومن حوله أطباق من الغلال الصيفية وغلال البحر، ويخرجون معه البحارة في مشهد مهيب
وتابع:" يحدث ذلك في الفسحة الشاطئية لسيدي بوجعفر، ويقدمون لأوسّو قربانًا وهو عبارة عن سلحفاة ضخمة، وخلال الفصل الثاني يقدم شيخ المدينة مفتاح البلاد إلى أوسّو، ويقدمون له أجمل فتيات البلاد ليتخذها زوجة، ولكن يُفاجَأون بأحد أقاربها يتقدم ليصارع أوسّو فيرديه قتيلاً"، وفق رواية طارق الزرقاطي
هكذا تبدأ الحكاية وتُحبك القصة المسرحية عبر مشاهد وفصول تمثيلية تستحوذ على ملكة الجمهور الحاضر، ثم يُؤثث الكرنفال بالحضرة النسائية في مظاهر احتفالية رائقة، وتتقدم عربة أوسّو فرقة موسيقية نحاسية "الباي" المنبثقة عن "المحمودية"، وكذلك فريق "السطمبالي".
وتوالت المشاهد المسرحية في الدورات اللاحقة لمهرجان أوسّو لتتخذ بُعدًا ثقافيًّا وسياحيًّا، وتقطع مع الأساطير الوثنية لإله البحر، وصار المهرجان يواكب الأحداث الوطنية واستراتيجية الدولة في الصحة والتعليم والفنون، ويُذكر أنه في سنة 1963 تم عرض مسرحي يُثمّن سياسة الدولة في تحديد النسل، فكان يجلس الممثل عبد العزيز الدراجي في عربة صغيرة وكأنه طفل رضيع، ويدفع به الممثل حامد زغدان في لباس امرأة، ويُشير بأصابعه الثلاث إلى الحبيب بورقيبة في المنصة الشرفية، وهي رمز الأبناء الثلاثة الذين يجب أن تلتزم بهم العائلة التونسية، وقد أثارت تلك المشاهد التمثيلية الرأي العام
وأشار طارق الزرقاطي إلى أن العمل على احتفالية الكرنفال كان جماعيًّا بين أفراد جماعة الاتحاد المسرحي، فعبد الحفيظ بوراوي كان مديرًا للإنتاج، ومحمد الزرقاطي صاحب فكرة وكاتبًا ومخرجًا لأكثر من 15 سنة، ولامس التجسيد المسرحي الدراما والفكاهة من خلال شخصية حامد زغدان الفكاهية، والتي تركت بصمتها الكرنفالية، ثم توالى على دور أوسّو كل من: الصادق الطرابلسي، الحربي، الطاهر خضيّر، وصولًا إلى صلاح الزرقاطي والفنان المسرحي بوراوي الوحيشي.
وكشف لنا طارق الزرقاطي أن المطرب علي الرياحي كان يُلحّن ويغني كلمات من نظم والده محمد الزرقاطي، وجمعتهما 6 أغانٍ شهيرة، ومن بينها ما عُرض في كرنفال أوسّو.
إن هذا العرض حول علاقة الكرنفال بالحركة المسرحية في بداية الخمسينيات والستينيات يدفع بالعديد من الفاعلين في المجال الثقافي لاستعادة "كرنفال أوسّو" كحكاية وقصة ذات حبكة وسيناريو، وفق أهداف انبعاثه، لا أن يتحول إلى مجرد كرنفال بلا هوية أو خصوصية قصّ.
يقول طارق الزرقاطي: "كرنفال أوسّو مهرجان بحر وفنون منذ التأسيس، وهو أساسًا مبنيّ على الفنون والمسرح والشارع والجمهور، ولا بدّ من تكوين شباب في الإخراج وكتابة سيناريو الاستعراضات، وقد فقدنا الحركة المسرحية في كرنفال أوسّو اليوم لأنه امتدّ وكبر، ولابد من العمل على الانخراط في العمل التطوعي التلقائي بكثافة وتكوينهم على ثقافة الكرنفالات".
من جهته، حدثنا الفنان بوراوي الوحيشي، وهو آخر من جسد شخصية أوسّو قبل سنتين، قائلًا: "كنت حين أمثل شخصية أوسّو أستعد له من بداية شهر مارس/آذار، بإطالة اللحية وتصفيف الشعر بطريقة مناسبة، فكان للكرنفال رونق، وليتنا نعود إلى شخصيتنا في الكرنفال ونحافظ على هويته وإرثه وخصوصيته".
كما حدثنا الناشط في الحقل الثقافي والسياحي مولدي ضيف الله، في أعقاب الدورة الثانية والستين للكرنفال، قائلًا: "نتفق أن النقد هو إحدى مفاتيح النجاح شريطة أن يكون نقدًا بنّاءً قادرًا على إعطاء الإضافة ولو بفكرة. أولًا، عودة الكرنفال في حد ذاته إنجاز ومكسب للجهة، ومنه كانت الدعوة والأبواب مفتوحة للجميع من متطوعين، فنانين، مثقفين، وغيرهم، اتفقوا على إعادة بناء أركان كرنفال سوسة بعد سنوات عجاف".
وأضاف:" كرنفال دولي يفتقر إلى مقر خاص به، والوضعية المالية العمومية لا تسمح بجلب عربات كرنفال "نيس الفرنسي" لمجرد العرض ثم تعود أدراجها بكلفة باهظة من العملة الصعبة. العربات المعروضة هي تونسية الصنع، من قبل ذوي الخبرة، وبأيادٍ تونسية صرفة، وهذا في حد ذاته مكسب، بعد عزوف العديد عن التمويل أو حتى المشاركة".
كرنفال أوسّو يبقى المنارة الاحتفالية الأولى في سوسة والساحل عمومًا، إذ يستقطب مئات الآلاف من الزائرين في يوم واحد، ويشاهده السياح في ذروة الموسم السياحي، لذلك نسعى إلى ضبط إيقاعه عبر الزمن، بعد أن تدخل فيه الفني مع التقني مع السياسي لتحقيق هدف فرجوي ثقافي وسياحي
0 Comments: