![]() |
| فيلم جاد |
فيلم "جاد": صرخة سينمائية تدق ناقوس الخطر... أقسام الطوارئ أم مقابر الأحياء
بعد متابعة العرض الخاص للفيلم السينمائي الطويل "جاد" للمخرج جميل النجار، وجدنا أنفسنا أمام عدة تساؤلات لعل أهمها، هل يعكس ما نقله النجار الواقع فعلا؟ أم أن هناك مبالغة في تصوير وضعية أقسام الطوارئ (الإستعجالي) في المستشفيات العمومية؟ هل يعامل المرضى بهذه القسوة حقا؟ وهل الإطار الطبي لا يزال يستحق لقب “ملائكة الرحمة”؟ أم أن المخرج لجأ إلى شيء من المبالغة لأغراض سينمائية في بعض التفاصيل؟
لا يختلف اثنان على أن المنظومة الصحية العمومية في تونس تشهد تدهورا مستمرا من عام إلى آخر، بل من السيئ إلى الأسوأ، وخاصة في أقسام الاستعجالي التي باتت مصدر رعب للمواطنين، ليس فقط بسبب افتقارها إلى المعدات الطبية، بل بسبب غياب الحد الأدنى من الإنسانية.
وفي هذا السياق، يأتي فيلم "جاد" ليقدم شهادة حيّة عن الواقع المرير الذي يعيشه المواطنون داخل المستشفيات، وخاصة أقسام الإستعجالي التي تحولت من فضاء لإنقاذ الأرواح إلى مسرح مكتظ بالألم والفوضى واللامبالاة.
في "جاد" اختارت كاميرا جميل النجار مواجهة الواقع التونسي من الأبواب الأكثر إيلاما، أبواب أقسام الاستعجالي، لكن دون أقنعة سينمائية، فالكاميرا في "جاد" لم تبحث عن الجمال، بقدر بحثها عن الحقيقة.
الإضاءة الشاحبة، الممرات الطويلة، الإيقاع الصوتي القائم على خطوات الأطباء وصرخات مكتومة… كل ذلك يجعل الصورة أقرب إلى وثيقة صحفية، لكن بعمق سينمائي مدروس. قد يلوم البعض النجار على الإفراط في التظليل البصري، لكنه في الحقيقة يقدّم ما يراه المواطن يوميا، ظلام لا يحتاج إلى إضاءة سينمائية كي يكون مرعبا.
يمثل هذا الفيلم التجربة الروائية الطويلة الأولى للنجار، يسلط من خلاله الضوء على هشاشة الخدمات الصحية، محولا السينما إلى أداة للمساءلة الاجتماعية دون الوقوع في المباشرتية أو في فخ التوثيق الجاف.
يستلهم الفيلم قصته من حادثة حقيقية هزّت الرأي العام التونسي، حيث يتعرض طبيب لحادث سقوط داخل مصعد معطل في مستشفى جهوي. وتتشابك الحكاية الأصلية مع مصير بطلي الفيلم: مواطن ثري ضحية حادث مروري، وعامل بناء فقير يسقط من ورشة عمل. ينقل الاثنان إلى المستشفى نفسه، حيث تنطلق مأساة العائلتين في كشف الثغرات العميقة في المنظومة الصحية.
يعري النجار في "جاد" الواقع دون روتوش متطرقا إلى غياب التجهيزات الأساسية، وتردّي البنية التحتية، وانتشار الفساد والرشوة والمحسوبية، بما يجعل المستشفيات فضاءات للعنف الرمزي ضد الإنسان.
يؤكد جميل النجار أنّ العمل لا يتهم أشخاصا بعينهم، بل يواجه منظومة فقدت إنسانيتها. فالمخرج ورغم حساسية الموضوع، ينجح في تقديم فيلم لا يغرق في الوعظية ولا يتلطخ برومانسية كاذبة، بل يمنح للسينما دورها الأصلي وهو مساءلة المجتمع، وتحريك المياه الراكدة.
يمثل "جاد" رسالة لإنقاذ أرواح بريئة ذنبها الوحيد أنها تعيش في دولة لا تحترم إنسانية مواطنيها. كما يدق ناقوس الخطر بشأن وضع المنظومة الصحية، محذرا من تداعيات كارثية تطال المرضى.
في هذا العمل السينمائي الجريء والمشحون بالصدق الإنساني، يفتح المخرج نافذة مؤلمة على واقع أقسام الطوارئ في المستشفيات العمومية التونسية، حيث تختلط أنفاس الحياة الأخيرة بقسوة الانتظار وغياب الإمكانيات.
يتقاسم البطولة نخبة من الممثلين يتقدمهم محمد مراد الحاصل على جائزة أفضل ممثل في مهرجان الدار البيضاء السينمائي في جوان 2025، إلى جانب ياسمين الديماسي وسوسن معالج وسهير بن عمارة وعبد الكريم البناني وجمال ساسي وفتحي مسلماني وأمال الهذيلي وسندس بلحسن ومحمد علي بن جمعة.
بجمعه بين الفن والالتزام الاجتماعي، يعد فيلم "جاد" خطوة جريئة في مسار السينما التونسية. فمع تفاقم الأزمات داخل المستشفيات العمومية، يدعو الفيلم إلى التفكير في مستقبل الرعاية الصحية، محولا الشاشة إلى مرآة تعكس واقعا يحتاج إلى إعادة إنعاش حقيقية. إنه الصرخة التي تعيد فتح النقاش حول كرامة الإنسان في فضاء يفترض أن يحمي حياته.
وفي "جاد" يطرح النجار سؤالا جوهريا أكبر من العمل نفسه: هل ما زال الحق في العلاج مكفولا للجميع؟ ولعل الجملة الصادمة التي يصرخ بها الفيلم : "المستشفى ليس مكانا للنجاة… بل آخر محطة قبل الفقدان." ربما لهذا السبب سيتهم العمل بالمبالغة.. لكن ماذا لو كانت الحقيقة أبشع من كل مبالغة؟
ختاما نذكر انّ فريق الإنتاج أعلن خلال العرض قبل الاول لفيلم "جاد" في مسرح الأوبرا بمدينة الثقافة، تخصيص إيرادات الفيلم لدعم المستشفيات التونسية، في مبادرة رمزية تعزز الرسالة الإنسانية للعمل.
يعرض الفيلم تجاريا في القاعات ابتداء من 22 أكتوبر 2025

0 Comments: