السبت، 15 فبراير 2025

السياحة الاستشفائية في تونس.. إرث وهوية وثروة تحتاج التأهيل

 

سياحه تونس
سياحه تونس

السياحة الاستشفائية في تونس.. إرث وهوية وثروة تحتاج التأهيل

الحمامات الساخنة في تونس، مزارات للسكان المحليين والوافدين في هذه الأرض منذ القدم وعلى مرّ وجوده عبر التاريخ، جميع الأماكن التي تنبع منها هذه المياه كانت ولا تزال محاطة بهالة من القداسة ومصدرًا للجمال وفضاءً للترفيه وملاذًا من الشرور فتحيط بها أساطير العظمة والإجلال والقوّة والعظمة.

في هذه البلاد شمال القارة الإفريقية المطلّة على البحر من الواجهتين الشمالية والشرقية، وتوغلًا في أراضيها الداخلية، أبدع القدامى وخاصة الرومان والقرطاجنيون وما بعدهما من حضارات في تشييد الحمامات في المدن، حتى اعتُبرت من مظاهر الازدهار وجودة الحياة. ويؤمّ هذه الحمامات، العامة والخاصة من القوم وتحوز أجلّ مظاهر الزينة من فسيفساء وتماثيل ورسومات وفنون شتى.

كما أبدع الأولون في تشييد المعالم المائية وقنوات التزويد بالمياه بإبداعات هندسية وتقنية عالية فتجد الغرف المشيّدة وقنوات المياه الساخنة المتدفقة وغرف اللهو والمرح كالتي كشفتها آثار منطقة جبل الوسط في ولاية زغوان.

التونسيون اليوم لا يزالون يحافظون على إرث الأولين في الاستجمام بالاستحمام في منابع المياه علاوة على مياه البحر، فيجدون فيهما منافع صحية ونفسية وعلاجًا لأمراض المفاصل وآلام الظهر وبعض الأمراض الباطنية، بل إنّ السياحة الاستشفائية أو العلاج بالمياه صار جزءًا من هوية هذا الشعب.

الحاجة رشيدة (80 سنة) إحدى نساء المدينة العتيقة بسوسة تنتظر موعدها السنوي كل ربيع للانتقال إلى "بنت الجديدي" من ولاية زغوان والذي يلقبونه كذلك بـ"للا خديجة" وهو منتجع ضارب في القدم تتدفق العيون الساخنة في حماماته الفردية العائلية وكذلك الجماعية، وهو مزار عشرات الآلاف من التونسيين سنويًا.

كانت رشيدة تستعد لهذا "الحج" السنوي بأن تنتقل للإقامة لمدة شهر في بيت مجهز بحمام ساخن فتسترد صحتها وتستجمع قواها بما تتلقاه من علاج طبيعي. كما يتجمع أفراد العائلة بهذه المناسبة السنوية في عطلة نهاية الأسبوع  فيتوارث الأبناء هذا التقليد.

ومثل الحاجة رشيدة، نجد الكثير من العائلات التونسية تحافظ على هذا الموروث العلاجي والاستشفائي بزيارة أماكن عدّة مثل قربص من ولاية نابل، وجبل الوسط والحامة وقفصة وحمام بورقيبة وعدة مناطق أخرى في تونس.

كما يجد الكثيرون العلاج بمياه البحر حلًا مثاليًا لعدد من المشاكل الصحية على غرار مخلفات الوضع والولادة والتوتر النفسي والعصبي، ولا أبرز من ذلك المثل الذي يتناقله الأجيال "يا بحر أوسو نحيلي الداء اللي نحسو" وفيه إحالة على اقتران علاجي مع أبراج زمنية.

وبمرور الزمن، وتقدم الطرق والأدوات العلاجية والاستشفائية طبيًا، تم تثمين الفوائد العلاجية بالمياه بجميع أنواعه، إذ يبعث الحمام من الماء الساخن في حالة غليان، راحة واسترخاء في مسبح من ماء البحر. 

أحواض المياه المعدنية تساعد الجسم على امتصاص الأملاح المعدنية من خلال الجلد ويساهم في نمو أنواع من خلايا جسم الإنسان، فهي تدخل في بناء العظام، وتساعد في انقباض وانبساط العضلات، وتنظيم التوازن الأسموزي داخل وخارج خلايا الجسم، وتشمل أملاح الصوديوم والبوتاسيوم والماغنيسيوم والحديد والفسفور. كما أن طلي الجسد بالصلصال البحري أو ما نعبّر عنه بـ"الطْفَلْ" وهي رسوبات بحرية مسخنة، يجلب الراحة ويمتص التوتر العصبي.

وهناك طرق عديدة للعلاج بالمياه أهمها الحمية الكلاسيكية التي تأتي لمقاومة الأرق والسمنة ومن أجل معالجة داء الرجلين الثقيلتين وداء المفاصل ومساعدة النساء حديثات الوضع وأيضًا لمعالجة آلام الظهر وفق ما نصح به أطباء الاختصاص في هذا النوع من العلاج.

يكشف الديوان الوطني للمياه المعدنية والاستشفاء بالمياه، أن التوافد على مراكز الاستشفاء بمياه البحر بلغ 110857 سنة 2023، وتصدرت سوسة أعلى عدد الوافدين 46287، أما التوافد على محطات المياه المعدنية الاستشفائية فقد بلغ 37751 شخصًا سنة 2023، وقد تصدرت المحطة الاستشفائية حمام بورقيبة نسبة الوافدين إليها بـ 18873 تليها المحطة الاستشفائية بجبل الشعانبي بـ15178 وفق ما تم نشره على الموقع الرسمي للديوان.

أهم المحطات التونسية الاستشفائية بالمياه المعدنية هي المجمع الصحي لجبل الوسط زغوان، المحطة الاستشفائية بجربة، المحطة الاستشفائية حمام بورقيبة والمحطة الاستشفائية جبل الشعانبي بولعابة.

وورد في مجلة "arab hospital magazine" أن معدّل إنفاق السائح الواحد 3 آلاف دولار في الأسبوع، على هذا القطاع الذي تمثل عائداته أكثر من 40% من عائدات القطاع السياحي ونحو 6% من الناتج الداخلي الخام. ويجري العمل حاليًا على إطلاق ورشة تطوير القطاع الصحية بما يتناسب مع تطلعات البلاد المستقبلية وتطورات الصحة العالمية باعتبار أن تونس تضم 50 مركز علاج بالمياه الطبيعية و30 حمّامًا تقليديًا، وأكثر من 60 مركزاً للمعالجة بمياه البحر، و18 نبعاً جوفياً حارّاً، بالإضافة للحمامات التقليدية الموجودة منذ القدم

وخلال سنة 2024، سعت وزارتا السياحة والصحة إلى تقديم برامج مشتركة للنهوض بالسياحة العلاجية والسياحة الاستشفائية خاصة وأن بلادنا تحتل المرتبة الثانية في العالم بعد فرنسا في مجال المعالجة بمياه البحر ورائدة في مجال الاستشفاء بالمياه المعدنية، لما تمتلكه من كفاءات طبية وشبه طبية ذات صيت عالمي وبنية تحتية ملائمة وعصرية وفق بلاغ صادر عنهما.

وقد سجلنا ثلاثة أصناف من السياحة الاستشفائية، وهي سياحة الرفاهة وسياحة كبار السن والسياحة الطبية (الجراحة التجميلية) وهي قطاعات قادرة على أن توفر عائدات كبيرة من العملة الصعبة.

الخبير في المجال السياحي محمد هلال في تحليل لواقع السياحة الاستشفائية في تونس، يؤكد على أن السياح الأجانب الذين وفدوا من أوروبا وخاصة فرنسا كانوا لهدف صحي استشفائي فمثلًا الكاتب والمؤرخ "قي موباسان" نصحه طبيبه بزيارة حمام الأنف التي كانت تضم مؤسسة استشفائية مائية متكاملة في بدايات القرن الماضي لتندثر اليوم وتصبح حمامًا عاديًا مهترئًا ونجد حمام الباي في الجهة المقابلة له وهذا يدل على قيمة السياحة الاستشفائية في ذلك العهد.

واعتبر محمد هلال أن المحطة الاستشفائية بقربص تعتبر لؤلؤة ضائعة لعدم استغلالها على الوجه الأكمل وأول من استثمر فيها الفرنسي "كاربانتي" وقد أصلح في البلاد سياحيًا، وتعتبر قربص غنية بمياهها وهي اليوم تحت إدارة ديوان المياه المعدنية التابع لوزارة الصحة لكنها شهدت تراجعًا كبيرًا في المردودية على عكس المحطة الاستشفائية حمام بورقيبة التي يستغلها الخواص.

واعتبر الخبير السياحي محمد هلال أن هناك مشاكل حوكمة وتصرف في محطة قربص، مقترحًا إعادة تهيئة المدينة وتأهيلها كي تكون منطقة استشفائية نموذجية مع المحافظة على طابعها العمراني التقليدي وإعداد برنامج مندمج متكامل بين القطاع العام والقطاع الخاص.

ويرى محمد هلال أن يتحول قصر بورقيبة في قربص إلى إقامة نموذجية ذات صبغة تاريخية وحتى النزل الموجودة لا ترقى إلى النموذج الدولي اليوم بل هي أقرب إلى سياحة استشفائية وعلاجية محلية محدودة الإشعاع.

وثمّن هلال في المقابل، السياحة الاستشفائية في حامة قابس داعيًا إلى تطويرها شكل جيد وبمواصفات عالمية حتى تكون وجهة سياحية عالمية بامتياز. ودعا في سياق متصل، إلى مراجعة الإحصائيات حتى تكون مطابقة للواقع في خصوص عدد الوافدين على المحطات الاستشفائية والعلاجية وتقاطع الإدارات في ذلك بين وزارة السياحة والديوان الوطني للمياه المعدنية والاستشفاء بالمياه التابع لوزارة الصحة.

صالح بلعيد (70 سنة) أحد المسنين الذين يتوافدون على مراكز العلاج الاستشفائية بالمياه في حديثه لـ"الترا تونس"، أحصى عدة نقائص فيما يتعلق بمراكز الإقامة والنقاهة لكبار السن أو المرضى الذين يتلقون العلاج في المستشفيات العمومية وذلك نتيجة الاكتظاظ خاصة في فترة الشتاء والربيع وهذا ما يستدعي مزيدًا من تأهيل القطاع وحوكمته بشكل يستجيب لهذه الفئة الهشة التي تحتاج شروطًا وظروفًا ذات خصوصية.

ويذكر أن الاتفاقات بين وزارتي الصحة والسياحة على تكوين فريق عمل مشترك يجتمع دوريًا يعمل على مزيد تنظيم قطاع السياحة الصحية في تونس ومزيد تشجيع المستثمرين على بعث مشاريع في هذا المجال إلى جانب الإسراع في استكمال إعداد كراسات الشروط الخاصة بالقطاع وفق بيان مشترك لهما.


SHARE

Author: verified_user

0 Comments: