![]() |
الأغاني الشعبية |
الأغاني الشعبية في تونس تراث لامادي يعيد سرد التاريخ المنسي
تحفظ عائشة وهي امرأة في السادسة والسبعين من عمرها الكثير من الأغاني التراثية التي كانت ترددها أمها ونساء الأسرة أثناء إعداد "العولة" أو القيام بمهام يومية أخرى، ورثت المرأة السبعينية هذه الهواية فصارت بدورها تردد ما تسميه بـ"أغاني الجدود".
ومن أكثر الأغاني التي تحب هذه المرأة أصيلة منطقة قعفور من محافظة سليانة، أداءها أغنية "على جنات" التي تقول كلماتها: "يا من صبر صبري على جنات.. نوحوا معايا واسكبوا الدمعات.. جنات البية وراسك ورأس إلي يعز عليا، لو كان تولوا الجازية المسمية، يصعب عليا الضحك مع البنات".
وتعتقد عائشة جازمة أن هذه الأغنية التي استمعت إليها أول مرة بصوت خالتها، تعود تاريخيا إلى منطقة الشمال الغربي التي تنتمي إليها، والحال أنها تعود إلى ما قبل قرن وسبعة عقود تقريبا ودارت أحداثھا بمنطقة القلعة الصغرى من محافظة سوسة، وهو ما كشفه تحليل هذا الأثر الشفوي من خلال قراءة شخصيات الأغنية والأماكن التي تتحدث عنها على غرار "بير كريد" الذي مازال موجودا في المنطقة إلى اليوم، وذلك بحسب ما صرحت به الباحثة في التراث الغنائي سلمى الجلاصي.
وتتمثل رواية الأغنية في حادثة وفاة مسترابة لفتاة اسمها "جنات" من عائلة مرموقة من منطقة القلعة الصغرى، عاشت قصة حب مع راع من المنطقة وعانى بسبب رحيلها، فجاءت هذه الأغنية لتروي الواقعة بشخوصها وأماكنها وكل ما تتضمنه من بنية سردية متكاملة، وتحولت إلى "مناحة جماعية" لكل العاشقين المحرومين والمغمورين ثم تناقلتها الركبان وترحلت في أصقاع البلاد، وفق الجلاصي.
وتعد هذه الأغنية عينة من العديد من الأغاني والأشعار المحفورة في الذاكرة الشعبية والتي تروي قصصا توثق جزءا من التاريخ المنسي للأفراد والمجموعات بعيدا عن السرديات التاريخية الرسمية التي اهتمت بالأحداث الكبرى والمحطات الفاصلة في تاريخ البلاد، فالموروث الثقافي الشفوي التونسي ثري بأشكال متعددة من الفنون الشعبية التي ازدهرت على مر الزمن.
ويشير مصطلح الفنون الشعبية الشفوية إلى مختلف الأشكال التعبيرية الثقافية التي انتقلت شفويا بين الأجيال على غرار الأمثال والحكايات الشعبية والشعر الشعبي والأغاني وغيرها. ولئن تعددت أصناف هذه الفنون في تونس، فإنه يصعب الحديث عنها مجتمعة في مقال واحد لما تزخر به من بنية معرفية وثقافية متينة.
وبخصوص الغناء والشعر الشعبي أساسا، يشير الدكتور في الموسيقى والعلوم الموسيقية، أمين الزواري، في تعريفه للأغنية الشعبية، إلى أنها تخضع لعدد من الخصائص، فهي تتناقل شفويا وتتكلم لغة "العوام" لتعكس بناهم الذهنية ورؤيتهم للعالم.
ويضيف في تصريح لـ"وات" أن صفة "الشعبية" ليس مردها فقط لأن الشعب وشرائح المجتمع الواسع هي التي أنتجتها، وإنما كذلك لأن الجماهير الشعبية قبلتها واستوعبتها ورددتها حتى استقرت في وجدانها وذاكرتها، فضلا عن كون مصدرها الأول في الغالب مجهول لأنه خلال عملية الانتقال بين الأجيال قد تطرأ عليها تغييرات.
واتفق عدد من الباحثين في التراث والعلوم الموسيقية، على أنه لا يمكن حصر تاريخ نشأة الفنون الشعبية بشكل دقيق لأنها تقوم على التوريث الشفوي، فكل مرحلة معينة تنتج فنونها الشفوية التي يبقى منها جزء للعصر الموالي ويندثر آخر وينشأ جزء جديد وليد سياقه الثقافي والاجتماعي.
ويلفت الباحث في التراث الشفوي علي سعيدان، وهو الذي أمضى أكثر من نصف قرن في البحث في مجال التراث الشفوي، إلى أنه لا يوجد شخص مختص وملم بكل تفاصيل هذا الموضوع نظرا لتنوع خصائص التعابير الشعرية والإيقاعية والغنائية بتنوع جهات البلاد التونسية، فالفنون الشعبية الشفوية تختلف باختلاف المناطق الجغرافية إذ لكل منطقة تراثها.
وفي تقديمه للغناء الشعبي، أشار الباحث إلى أن "الغناء واحد والمعاني شتى"، فقد كان الفن الشعبي منتشرا في مختلف المناطق التي يجتمع فيها الأفراد على غرار "الدشر" و"الحوم" و"الحارات" وفى البحر والمراسي وفي المناطق الجبلية والصحراوية، فضلا عن كونه يلقى اهتمام شرائح مجتمعية مختلفة من بينها الأسر "الميسورة الحال" و"العروش" وأهل الأرياف والبوادي وغيرهم.
وأوضح أن هذه الأغاني كانت تؤدى من قبل أفراد يطلق عليهم صفة الشعراء، والذين حين يصلون إلى مستوى معين من الطرافة في القول والأداء بما يستحسنه الجمهور، ينالون صفة "القوال".
و"القوال" هي صفة مرموقة في تاريخ الفن الشعبي وهي مرادف لصفة "الغناي" أيضا وهو الشخص الذي يلقي القصائد والأغاني ولكن لا ينظمها، وفي مستوى آخر من إتقان الفن الشعبي فإنه يطلق على من ينظم الشعر ويقرأه صفة "الأديب".
ويقول الدكتور أمين الزواري، وهو الذي أصدر مرجعين بحثيين مرتبطين بموضوع الفن الشعبي وهما "الرواسب الإفريقية في الثقافة الشعبية التونسية" في العام 2019، و"الأغاني الشعبية في تونس بين هاجس التأصيل ومنزع التأهيل" في العام 2024، إن هناك خارطة ثقافية تونسية تبوح بتوزع جغرافي للأنماط الثقافية الشعبية، على غرار الأدب الشعبي مثلا الذي ارتبط في سياق ما بقبائل "المثاليث والمرازيق" والمالوف وتحديدا "مالوف الجد" و"مالوف الهزل" الذي يعود إلى تستور. كما أشار إلى ما تحمله جزر قرقنة وجربة من تراث موسيقي يعيد إلى الأذهان من موسيقى "الطبال والزكرة" وتقاليد البحارة وأغانيهم.
وتحدث الباحث عن ارتباط بعض الأنماط الفنية بخصوصيات جماعات "إثنية" على غرار موسيقى السطمبالي المرتبطة بـ"الزنوج"، كما تناول العلاقة بين بعض الأصناف من الأغاني الشعبية وبين ما أطلق عليه "سلوك أو ظاهرة اجتماعية أو طبقية" من ذلك شيوع موسيقى المزود في الأحياء الشعبية واقتران موسيقى "الزندالي" بالمساجين.
وبحسب الباحثين، فإن الأغاني الشعبية قديما تنقسم إلى العديد من الأصناف المرتبطة بأغراضها الاجتماعية، وفي هذا السياق تحدثت سلمى الجلاصي، صاحبة كتاب "أغاني التونسيات من خلال مرددات نساء بلدة الكنائس" الصادر سنة 2021 عن تقسيمها إلى "أغاني الهدهدة" التي تستعملها النساء مع الرضع لمساعدتهم على النوم، وأغاني العمل التي يتم ترديدها أثناء القيام بوظيفة ما، على غرار "أغاني الرحى" أثناء رحي الحبوب و"أغاني الجز" في موسم جز صوف الأغنام، والنسبة الأكبر من الأغاني الشعبية، كانت تصنف ضمن أغاني العشق، وهناك أيضا أغاني "الرقص / الزهو" التي تكون في شكل إيقاعات تصاحبها كلمات بسيطة بغاية الترفيه عن المجموعة.
ومن أطرف الأغراض الغنائية القديمة، "أغاني الحكمة" وهذا الغرض يؤديه الشعراء المتمكنون في مرحلة ما من مسارهم "الأدبة/ جمع أديب"، حيث يصوغون أشعارا في قالب حكم وتسري مسرى المثل على ألسنة الناس على غرار "الدنيا فانية وظاهر فناها وإذا زهات حاسب من قداها" وغيرها ويطلق عليها أيضا تسمية "الثوامر".
ومن الأغراض الغنائية التي تواصلت إلى اليوم في بعض المناطق، ما يسمى "التعديد" أو "النواح" في الجنائز، حتى أن هذا الصنف تحول في مرحلة ما إلى موضوع تندر فأصبح البعض يصوغون "طرائف" على لسان "النواحات/النائحات".
ولفتت الجلاصي إلى أنها استخلصت بعد رحلة من البحث في ثنايا الأغاني الشعبية لسبع سنوات أن الأغاني الشعبية تؤدي أربع وظائف أساسية، الأولى ترفيهية، والثانية تربوية تتقاطع فيها مختلف أصناف الأغاني الشعبية بدءا بأغاني الهدهدة ووصولا إلى أغاني النواح، والثالثة اجتماعية تصوغ مواقف جماعات الترديد، والوظيفة الرابعة توثيقية للأحداث الراهنة من ذلك توثيق الأحداث الذاتية أو الجماعية في قالب شكوى أو احتجاج أو غيره. وقد تحولت بمرور الزمن إلى وثائق يمكن من خلالھا رصد جزء من التاريخ الاجتماعي أو تاريخ الفئات المغيبة عن التاريخ الرسمي المدرسي، إذ تتضمن أسماء أماكن وحلي وأكلات ومعدات فلاحية وأواني منزلية وملابس وغيرها من المعطيات التي ترسم تواريخ "المهمشين" وحياة البسطاء التي تناولتھا مباحث "التاريخ الجديد"
ومن الملاحظات المنهجية التي أصر عليها الباحثون، ضرورة التفريق بين الغناء البدوي والغناء الحضري، فالغناء البدوي يضم أشكالا متعددة وعادة لا تستعمل فيه آلات موسيقية إلا في حالات قليلة وتكون إما "الناي" أو "الزكرة"، أما الغناء الحضري (خاص بالمدن المركزية وأساسا العاصمة)، فقد تأثر بعدة عوامل من بينها تمركز اليهود التونسيين في العاصمة وتأسيسهم لفرق موسيقية تستعمل "الماندالينا" و"الدف"/"الطار" وغيرها.
وأشار أمين الزواري في حديثه عن الفن البدوي إلى أن الأغاني الشعبية البدوية تضم العديد من الأصناف، من بينها "الصوت"، معروف في منطقة تطاوين، و"الطرق" و"الملالية"، المعروفة لدى عرش الشارني بمنطقة الكاف، و"الغناء بالطويل"، وهو مشترك بين مدن الشمال الغربي بتونس وبين الجزائر، و"النغمة" و"النص".
كان للفن الشعبي عموما والأغاني الشعبية بشكل خاص دور توثيقي يؤرخ بطريقة غير رسمية لأحداث ووقائع فردية وجماعية، تضم في طياتها تاريخا قد لا توليه السردية الرسمية أهمية. وواصل الفن الشعبي إلى فترة ما أداء هذه الوظيفية التوثيقة، من ذلك مثلا "الزندالي" من أصناف الفن الشعبي الذي وثق من خلاله المساجين تجاربهم السجنية وما يعيشونه من أحداث يومية على المستويين الفردي والجماعي. ومن ضمن الأغاني الشهيرة في هذا الصنف، أغنية توثق تجربة سجناء الرأي، فالفنون تنشأ حسب الحاجة فالسجن كمكان مغلق أفرز الحاجة إلى كتابة كلمات تضفي معنى على ما يعيشه الأفراد هناك.
ولعل أشهر أغنية زندالي انتشرت في تونس، "ارضى علينا يا الأميمة" والتي يؤكد كثيرون من المهتمين بالبحث في التراث الغنائي أنها كانت تقول في كلماتها "ارضى علينا يا بورقيبة"، نسبة إلى الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة، ولكن تغيرت الكلمات لاحقا وهو الحال بالنسبة إلى أغلب الفنون الشفوية التي قد تطرأ عليها تغيرات حسب السياق الذي تؤدى فيه.
وبالحديث عن الرئيس التونسي الأسبق الراحل الحبيب بورقيبة، فقد نسب إليه أنه كان يمنع بث الأغاني الشعبية في الإذاعة والتلفزيون، وهو ما أجاب عنه عبدالعزيز قاسم، مدير الإذاعة الوطنية في تلك الفترة (تم تعيينه مديرا عاما للإذاعة مرتين: الأولى من 18 ديسمبر/كانون الأول 1981 إلى 10 مارس/آذار 1983 والثانية من 23 سبتمبر/أيلول 1985 إلى 5 أغسطس/آب 1986)، إذ أوضح أن مسألة عدم بث بعض الأصناف من الأغاني الشعبية آنذاك كانت تخضع لعاملين، الأول مرتبط بالإذاعة نفسها التي منذ نشأتها في أكتوبر/تشرين الأول 1938 اهتمت بالأغنية التونسية لـ"تهذيبها" و"النهوض بها". أما العامل الثاني، فيتعلق بما أسماه بالسياسة الثقافية في العهد البورقيبي إزاء الفنون الشعبية، فقد أشار إلى أن بورقيبة كان مناصرا للعديد من أشكال الفنون الشعبية حتى أنه كان أول من أطلق على "الشعر الملحون" تسمية "شعر شعبي" وكان يستسيغ الأغاني التي تعتمد "الزكرة" والطبل على غرار أغاني إسماعيل الحطاب وتحديدا ما يبثه برنامج "قافلة تسير"، مؤكدا على "استهجان" بورقيبة لـ"المزود" وأن هذا الصنف لم يكن يبث في الإذاعة أو التلفزيون إلى حدود نهاية ثلاثينية حكم الحبيب بورقيبة.
وقال عبدالعزيز قاسم إنه لم يتلق شخصيا أي تعليمات رئاسية مباشرة حول الموضوع رغم أن بورقيبة كان يتصل يوميا به بصفته مدير الإذاعة "للشكر أو للتوبيخ" حول ما يبث، وهو ما أكده في كتابه "بورقيبة المستمع الأكبر" الصادر سنة 2022.
ومع مرور السنوات ووعيا بأهمية التراث اللامادي ودوره في حفظ ذاكرة الشعوب، أصبحت الفنون الشعبية تحظى باهتمام أكبر في السياسات الثقافية للدولة وهو ما تجسد هذه الصائفة من خلال إطلاق المهرجان الدولي للفنون الشعبية بأوذنة الذي افتتحت دورته التأسيسية في السادس والعشرين من يوليو/تموز الماضي وتتواصل عروضه إلى غاية الخامس من أغسطس/آب الجاري، بمشاركة فنانين شعبيين يؤدون أنماط فنية مختلفة.
ورغم كل ما تحمله من عمق تراثي مرتبط بالهوية التونسية إلا أن هناك من الفنون الشفوية ما اندثر وهناك ما تواصل إلى اليوم، فهناك عدة قيم وأماكن وثقتها الأغاني ولكن اندثرت بمرور الزمن، في حين بقيت تعبيرات جماعية أخرى حاضرة في الذاكرة دائما لأنها مازالت قادرة على التعبير عن حاجة البشر على غرار أغاني "الحب" لأن الحب لا يموت هو حي في كل زمان وفق ما بينته الجلاصي.
ويشير الباحثون إلى أن انتشار أغنية "يا من صبر صبري على جنات"، كان بفضل تبنيها من قبل فرقة الإذاعة الوطنية خلال خمسينات القرن الماضي، ثم إذاعة صفاقس وبفضل البث الموحد تعممت، ومازالت متداولة إلى اليوم.
وفي سياق ما قبل الوسائط السمعية البصرية، حافظت بعض الأغاني الشعبية على وجودها وانتشرت عبر المناطق الجغرافية من خلال "الهطايا" والتجار والمصاهرات وغيرها من الأشكال التي سافرت بالأغاني على غرار أغنية "هزي حرامك وخمريك" التي تعود إلى التراث الكافي و"وحش السرا" وغيرها من الأغاني التي يتم ترديدها في مختلف المناطق من تونس، وهذا الترحل للأغاني يجعل من الصعب نسبة أغنية لمنطقة ما دون تحليل متنها وما يتضمنه من دلائل وقرائن.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق